فوْزيِ عبد القادر الميلادي


حينَ تصبحُ قلوبنا خراباً كأنها مقابر فيأتيَ الفرَحُ فجأةً بعدَ أن يئسنا من انتظارِه فيبعثُ الحياةً فينا من جديد ويدفعنا إلى أن نصالحَ كلَّ ما حولَنا....

أخذت سَميرة تتأملُ المظروفَ الأنيق الذي حمله لها ساعيِ البريد وتُقَلِّبه بينَ يديْها وتُحدِّثُ نفسَها. إنَّ هذا المظروفَ يحملُ قرارَ تعيينِها معيدةً بكلية البناتِ وربما أيضاً إخطاراً بالحضور لاستلام العمل بالكلية وهذا يعني بدايةً جديدةً وقد تكون سعيدةً..أخذت تُمْعنُ النظرَ في يدِها الممسِكةُ بالمظروفَ وتتأملُ بَشَرَتَها الشديدة السُمرة . فترددَ صوتٌ في أعماقِها أبداً كُتِبَ علَيَّ الشقاءُ إنني أعيش غريبةً في هذا العالَم وسأظلُّ هكذا غريبةً ووحيدةً حتى نهاية أيامِي.. وعادت بها الذاكرةُ إلى أيامِ طفولتِها وصِبها وقتَ أن كانت تُلاقي الأمرّيْن من سُخْريةِ زميلاتِها بل وأقاربِها وسكّان الحي جميعاً وهم يتندرون بسمرةِ بَشَرَتِها. وعندما التحقت بالكلية استطاعت بتفوقِها أن تفرِضَ احترامَها على الجميع ولكنها رغم ذلك كانت ترى في نظراتِ الناسِ سُخْريةً ما بعدها سُخْرية ولم تملك سوى أن تتجاهلَ تلك النظراتِ وتَمضي في طريقِها وهي لم تَسمَعْ في حياتِها قط كلمةَ إعجابٍ أو إطراءٍ من أحدٍ.. وها هي اليوم تستوقفها ليلى وهذه إحدى طالبات الثانوية العامة باسمةَ الثغر وتَشِيع في وجهِها الفرْحةُ وأخبرتها بأن خِطبتِها ستتم اليومَ وإنها تدعوها لحضور الحفلة. ليلى هذه رسبت في الثانويةِ العامةِ سنتين وإذا لم تنجْح هذا العام فستفْصلها المَدرسة بلا شك. ومع ذلك فقد وَجدَت بينَ أقربائِها مَن يختلسُ إليها النظراتِ ثم يُعجَبُ بها ثم يتقدمُ لخطبتِها.. في المساء ستُضاءُ الأنوار في منزل ليلى. ستجلسُ بقرب خطيبِها وقد ارَتدَت فُستَاناً من الحرير الناصع البياض. ستدور أكواب العصير ثم تُمَدُّ الموائد ويقف العاشق الولهان أمامَ الأهل والأصدقاء يُمسِكُ بيدِه يدَ ليلى اليُمنى ليضعَ في إصْبعِها خاتم الخطبةِ ثم يضع في يدِها سِواراً من الذهب المرصِّع بالماس وتُعزَفُ الموسيقى ويفرح الجميع ويمرحون وتتلقى ليلى التهاني والدنيا لا تَسَعها من الفرْحةِ إنها ليلة من ليالي العمر عاشتها زميلات سميرة من قبل وها هي ليلى تلميذتها ستعيشها هذا المساء وسيعيشها الناس جميعاً في المستقبل ولكنها هي وحدها دونَ سائر البشر لن ترى تلك الأضواء ولن تُعزَفَ لها الموسيقى ولن يضعَ رجلٌ في أصبَع يدِها خاتماً في يومٍ من الأيام. واستمَرّت سميرة في سيرِها ووصلت إلى الكورنيش منقبضةَ النفس حزينة الفؤاد وأخَذَت تتأملُ الأمواج وهي تقتربُ من الشاطئ في اندفاعٍ ثم ما تلبَثُ أن تنحسِر وتعود أدراجَها وكانت تُحدِثُ أصواتاً أشبه ما تكون بالبكاء أو العويل. وهكذا بدت لها في هذا الصباح.. أعادت الخطابَ إلى حقيبة يدِها وأخذت تُحملِقُ في الأفقِ بنظراتٍ شاردةٍ ثم نظرت إلى الزوارق التي كانت تقترب من الشاطئ وقد غصَّت بالركاب الذين بدت عليهم البهجةُ وقد عادوا لتَوِّهِم من نُزهَةٍ بحريةٍ مُمْتعةٍ. وتمتمتْ. هذه الزوارق يركبها السعداء في الحياة أما التعساء فيَظَلّون واقفين مثليِ هكذا على الشاطئ..
توجهت سميرة إلى غُرفة الناظرة للحصول على إخلاء الطرَف فلم تجدْها فاتجهت إلى مكتب سكرتير المَدرسة الأُستاذ صلاح. وما أن رآها صلاح حتى هَبَّ واقفاً ومدَّ إليها يدَه مصافحاً ثم قدَّمَ لها كرسيّاً قائلاً . تفضلي يا سميرة هانِم أهلاً وسهلاً لقد وصلَنا اليومَ كتاباً من الوزارةِ يُفيد بتعيينِكِ معيدةً في كليةِ البناتِ إنني أُهنئُكِ وأُهنئُ الجامعةَ لكنني أُعزّي نفسيِ. أقصدُ إنها ستكون خسارةٌ للمدرسة.. وطلَبَ صلاح من الساعيِ أن يُحضِرَ لسميرة هانِم كما كان يدعوها دائماً. كُوباً من عصير الليْمون المثلج. وأخَذَت سميرة ترتشِفُ عصير الليمون وتتأملُ صلاح وهو منهمكٌ في عملِه يُؤشِّرُ على الأوراق يرُدُّ على الهاتف يتصلُ بالمنطقة التعليمية. إنه بحقٍّ القلبُ النابض للمَدرسة. كان أنيقاً في ملبسِه حلو المَعشَر رقيق الحديث دائم الابتسامة.. وفي غفلةٍ منه راحت سميرة تختلسُ النظراتِ إلى أصابِعِه إنه لا يحملُ في أيٍّ منها خاتم خطبة أو زواج عجباً كيفَ يبدو سعيداً هكذا وهو يعيش مثلها وحيداً في دروب الحياة. وبينما هما جالسان إذا بفتاةٍ فارعة الطول تَرْتَدِي ثوباً من الحرير الأزْرَق وتضعُ على عينيْها نظّارةً سوداء تُقبِلُ عليهما وما أن رآها صلاح حتى صافحها في حرارةٍ ودَعاها لِلجلوس بالقرب من سميرة واستأذن منهما في مغادرة المكتب لإنجاز إجراءات إخلاء الطرَف وما أن غادر صلاح المكتب حتى شعُرَت سميرة بنظراتِ الآنسة المجهولة تنفذُ إلى أعماقِها وأطرقت برأسِها إلى الأرض وخَيَّمَ على الغُرفةِ صمتٌ عميقٌ فبادرت الفتاة قائلةً اسميِ هدى معيدة بمعهد التمريض العاليِ. وأخذت هدى تتحدثُ عن صلاح بإعجابٍ واحترامٍ شديدين فَرَوَت لسميرة كيفَ أنَّ والدَه توفيَ وهو طالبٌ في المَدرسةِ الثانويةِ واضطرَّ على أثرِ ذلك أن يعملَ موظفاً فورَ حصولِه على الثانوية العامة ثم التحقَ بعدَ ذلك بكلية الحقوق وها هو في السنة النهائية. وامتدَّ الحديث قُرابة ربع ساعة وهدى تلك لا تفتأُ تُشِيدُ بمناقب صلاح وخِصالِه. ورغمَ أنَّ سميرة ارتاحت لهذا الكلام عن صلاح وذلك لأنها تشعرُ نحوَه بكثيرٍ من التقدير مذ أن تسلَّمت العملَ في المَدرسةِ إلا أنها ضاقت ذرعاً بهدَى ذلك لأنَّ حديثَها عن صلاح كان أشبه بحديثِ العاشقةِ المُتيَّمةِ التي تصِفُ فارسَ أحلامِها والأمرُ لا يعني إلا شيئاً واحداً إنَّ هدى ربما تكون خطيبة صلاح وقد أرادت فقط أن تُشِيدَ بمناقب خطيبِها أمامَ الناسِ. وأطرقت سميرة برأسِها كانت لأولِ مرة تشعرُ في حياتِها بالغيرة تأكلُ قلبَها وخطَرَ على بالِها أن تُغادرَ الغرفةَ وتترك هدى بمفردِها أو تنهرها وتطلبُ منها أن تَكُفَّ عن الكلام لكن هذا كله لا يليقُ فإنَّ هدى لم تقلْ إلا صِدْقاً وصلاح في تلك اللحظة كان مَعنيّاً بإنجاز أوراقِها حتى تحصُلَ على إخلاء الطرَف فهل يكون جزاؤُه أن تتخذَ منه مثل هذا الموقف في غيبتِه. ورفعت سميرة رأسَها وابتسمت وقالت. تشرفنا يا آنسة هدى أهلاً وسهلاً. وكفَّت هدى عن الحديث وفي تلك اللحظة عادَ صلاح ومعه بعضَ الأوراق فقال. هذه الأوراق يا سميرة هانِم قد تمَّ إنجازها ولم يبقَ سوى اعتماد حضرة الناظرة وهي في اجتماع في المنطقة التعليمية وستحضرُ بعدَ ساعتين. ونظرت إليه سميرة وقالت. أشكركَ ولكنني لا أستطيع الانتظار ساعتين. وتدخلت هدى في الحديث وقالت موجِّهةً الحديثَ إلى صلاح. يمكنك أن تُرسِلَ الأوراق إلى الآنسة سميرة في المنزل مع أحد السُّعاة . فردَّ صلاح طبعاً ذلك ممكن وإنْ لم أجد ساعياً يمكنني أن أذهبَ بها بنفسيِ. وصمَتَ قليلاً قبلَ أن يستطردَ. إذا أذِنَت لي الآنسة سميرة؟؟. وتصاعدت الدماء غزيرةً إلى وجهِ سميرة ولم تدرِ بماذا ترُدُّ على هذا الكلام. وظلَّت صامتة فقالت هدى. نعم هذا جيد. فدُهِشَت سميرة لذلك وأردفَ صلاح قائلاً. شقيقتي هدى كانت تودُّ زيارتَكم منذ زمن بعيدٍ وأظنُّ هذه فرصة مناسبة.. وسادَ المكان صمتٌ مُحيِّرٌ لقد توقعت كلَّ شيءٍ إلا أن تكونَ هدى شقيقتَه. وقطَعت هدى الصمتَ بقولِها. ووالدتي أيضاً كانت تودُّ زيارتَكم والتعرف إلى والدتِكِ لكنها اليومُ متوعكة صحيّاً بعضَ الشيء وهي معجبة بكِ كثيراً من فرْط امتِدداح صلاح لكِ فما رأيكِ يا آنسة سميرة؟؟. أحسَّت سميرة في تلك اللحظة بدوارٍ شديدٍ ولم تدرِ ماذا تقول وماذا تفعل هل تَضْحك أم تبكي هل تقف أم تظلُّ جالسةً هل هدى صادقة في حديثِها؟؟. هل صلاح صادق في عواطفِه أم هي أوهام ما تَلْبثُ أن تتبددَّ؟؟. هل تعرِفُ والدة صلاح أنَّ بَشَرَتَها شديدة السُّمرة؟؟. إنها لم ترها من قبلِ ورأت سميرة أن تقْطعَ الشكَّ باليقين فقالت أهلاً وسهلاً تفضلوا شرُفونا بزيارتِكم الليلةَ سأكون سعيدة لو حضرت السيدة والدتِكِ. وانْحَنَت هدى على سميرة وقبَّلتها وقالت. كما تحبين سنحضُرُ جميعاً أظنُّ الساعةَ السادسةَ موعدٌ مناسبٌ.. ومدَّت سميرة يدَها تُصافحُ هدى وصلاح وهي تقول. نعم مناسب أهلاً وسهلاً.. وفي طريق عودتِها وقفت تتأملُ الأمواجَ على الشاطئ فخُيِّلَ إليها أنَّ أمواج الصباح القاتمة قد اختفت وحلَّت محلَّها أمواجٌ جديدةٌ تَضْحكُ وتَرْقُصُ وهي ترتطمُ بالشاطئِ مُحدِثَةً أصواتاً موسيقيةً عذبةً تَفُوحُ منها رائحةٌ تشبِه رائحة العطر ونظرت إلى زورقٍ خالٍ يقفُ على مقرُبةٍ من الشاطئ فأخَذَت تُلَوِّحُ له بِيدِها وتقول. انتظرْني أيها الزورق لا تبتعد سأَعودُ إليكَ لِتحمِلَني أنا وحبيبيِ على صفحةِ الماء .